خدمات الجمعية ومنشوراتها

آذار - نيسان 2019

القطاع النقدي بين مطرقة العقوبات وسندان الفساد

يعجب المرء لهذا التزامن في المواقف بين مجموعة الضغط الإسرائيلية في واشنطن "ايباك" وبعض الأطراف السياسية الأساسية في لبنان في مهاجمة القطاع المصرفي اللبناني. فالضغوط الخارجية مفهومة من قبل معظم المحلّلين، لأن تقويض الاستقرار النقدي قد يُغرق لبنان ومعه حزب الله ، في نظر مجموعة الضغط هذه! أما هجوم بعض الأطراف اللبنانيّين على المصارف، فلا يجد تفسيراً غير الإعتقاد بأن هذه الأطراف بحاجة الى تمويل يعوّض تراجع مصادر التمويل السياسي الخارجية.

أما الضغوط الخارجية ، فتتولّى جمعية المصارف التصدّي لها عبر جهود مكثّفة ومنظّمة ومكلفة منذ حوالى سبع سنوات لدى الكونغرس والإدارة الأميركية في واشنطن ولدى المصارف المراسلة في نيويورك وغيرها من العواصم المالية (لندن، باريس، فرانكفورت...). وكان آخرها الزيارة التي قام بها فريق عمل الجمعية خلال الفترة الواقعة بين 6-10 أيار 2019 إلى الولايات المتحدة الأميركية. وقد جاءت هذه الزيارة الأخيرة ناجحة ومفيدة جداً على صعيد تمتين العلاقات مع المصارف المراسلة كما على صعيد الكونغرس والإدارة الأميركية. فقد تمَّ التعرف خلالها على المسؤولين والمنتخَبين الجدد في اللجان النيابية والإدارات المعنيّة بعملنا كمصارف. واستطاع وفد الجمعية أن يقوّي العلاقة مع هذه الأطراف بالرغم من المناخ المتشدّد السائد حالياً. وقد تمَّ التأكيد على استمرارية هذه العلاقة المبنيّة على التزام مصارفنا مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وإبقاء القطاع المصرفي بمنأىً عن أية تعاملات يُجريها من خلاله الأشخاص والشركات والمجموعات المدرجة على لوائح الإرهاب.

أما الضغوط الداخلية ، فتستند في تقديرنا إلى مجموعة من الفرضيات الخاطئة والمُضلّلة والظالمة. وجوهر هذه الفرضيّات الظالمة يعود إلى اقتناع بأن المصارف لا تدفع ضرائب كفايةً. والحقيقة أن مجموع ضرائب الدخل التي سدّدتها المصارف عام 2018 وحدَه تخطَّت 1,63 مليار دولار. تحمَّلت المصارف 70% منها، أي 1136 مليون دولار محصّلة من الضريبة على الأرباح (17%) مضافةً الى مفاعيل الازدواج الضريبي جرّاء فرض معدل 7% على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان والخزينة، ما يعني تحميل المصارف معدل ضريبة فعلية قارب 42% من أرباحها بدلاً من الــ 17% التي فُرضت كمعدل ضريبة على أرباح الشركات. فيما ساهمت ضريبة الفائدة على ودائع الزبائن (7%) في 30%، أي حوالي 500 مليون دولار.

وفي حال إقرار رفع معدل ضريبة على فوائد الودائع المصرفية الى 10% في قانون موازنة العام 2019 بدلاً من الـ7% المعمول بها ، فإن العبء الضريبي على أرباح المصارف ، المتراجعة أصلاً ، سيتخطّى عتبة الــ 60% في المتوسط، بدلاً من ضريبة الدخل البالغة 17% المطبّقة على أرباح الشركات.

ربما يجهل الفرقاء السياسيون الأساسيّون، رغم كثرة المستشارين داخل صفوفها ومن خارجها، أن المصارف ساهمت وحدها خلال العام 2018 بما يزيد عن 58% من حصيلة ضريبة الدخل على أرباح الشركات المساهمة والمحدودة المسؤولية والفردية، والتي يزيد عددها عن 150 ألفاً (مقابل 65 مصرفاً عاملاً في لبنان) ، إضافةً الى ما يدفعه الآلاف من أصحاب المهن الحرّة! أوليس ثمّة مَن يتّقي الله في ما يُسرّ به ظلماً وبهتاناً على مسامع رجال الدين فيعكسونه في خطبهم! أو يردّدونه على مسامع أصحاب القرار في السلطة فيسارع هؤلاء إلى ترجمته قرارات في مجلس الوزراء أو تشريعات ضريبيّة في مجلس النواب دون الالتفات إلى مصلحة البلد والاقتصاد؟! أم أن هؤلاء وأولئك يظنّون، وهذه شرُّ البليّة، أن هذه الإجراءات الضريبيّة العشوائية المقترحة تطاول المصارف حصراً فيما يبقى الناس والاقتصاد والبلد بمنأىً عنها وعن مفاعيلها؟ لا تُدار البلاد وشؤون العباد بالفرضيّات الخاطئة ولا بالشعارات الشعبوية. فالواقع أن أحداً من أصحاب القرار ومن الأحزاب الأكثر تعرّضاً للمصارف لم يكلّف نفسه عناء تقديم دراسة عن انعكاسات الضرائب العشوائية على تسليف الإقتصاد وعلى ميزان المدفوعات وعلى نمو الودائع وعلى الاستقرار النقدي. وكلّها في أساس لقمة عيش اللبنانيّين!.

ثمَّ إن قمّة الخطر على الاستقرار المالي في البلد أن تتحوّل المصارف إلى المموِّل الرئيسي لاستمرارية منظومة الفساد والهدر داخل الطبقة الحاكمة. عندها، تسقط في خضمّ الصراع الذي يشتدّ في المنطقة، المحرّماتُ التي حالت دون استهداف هذا الاستقرار النقدي والمالي حتى الآن. فحذارِ من فتح باب جهنم، إذ لا أحد يعرف ما قد يخرج منه من شياطين! ولا أحد سيكون قادراً على ضبط الأزمة وتنظيمها وإدارتها.

والأكيد أيضاً أن الطبقة السياسية في لبنان تجهل أو تتجاهل مقدار الدعم المالي غير المباشر الذي يقدّمه الجهاز المصرفي بمكوّنَيْه التجاري والمركزي للدولة اللبنانية من خلال إقراض الخزينة بفوائد معتدلة مقارنةً مع مخاطر لبنان السيادية. فالقطاع المصرفي يوفّر للدولة قروضاً بالليرة والدولار تفوق 72 مليار دولار بفائدة مدينة متوسطة قدرها 6,4% بدلاً من 13% في المتوسط تدفعها أي دولة مصنّفة بـدرجة B- من قبل مؤسّسات التقويم الدولية، ما يوفّــر فعلاً على الخزينة 5,5 مليارات دولار سنوياً من خلال آلية الإقراض هذه وحدها! وإذا أضفنا إلى ذلك مقدار الضرائب التي تدفعها المصارف والمودعون والتي تزيد سنوياً ، كما أشرنا أعلاه، عن 1,6 مليار دولار، تصل مساهمة القطاع بطريقة مباشرة وغير مباشرة الى زهاء 7,1 مليار دولار لخزينة الدولة، أي أن القطاع المصرفي المركزي والتجاري يموِّل أكثر من ثلث النفقات العامة ويمثّل حوالى ثلثي إيرادات الدولة!. إن محاولة تدفيع القطاع المصرفي، أي المودعين لديه والمساهمين فيه، ضرائب إضافية يُعتبر تجنّياً وظلماً من ناحية العدالة الضريبية والإجتماعية؛ وهو ينطوي على تحميل القطاع ما ليس بمقدوره احتماله، ما قد يؤدّي إلى ما لا تُحمَد عُقباه. وهنا تترتّب على الأحزاب السياسية وبخاصة على كبارها مسؤولية وطنية بل وأخلاقية عمّا قد يولّده ذلك لاحقاً من مضاعفات سلبيّة على الاستقرار النقدي. فالرساميل تغادر البلد ولا تُقبل عليه جرّاء كلّ هذه الطروحات الإعتباطيّة المتداولة بمناسبة مناقشة مشروع الموازنة. وقد راجعت الجمعية سابقاً كل السلطات التي وعدت بالحؤول دون إقرار مثل هذه التوجّهات المغالية ضدّ قطاع وفَّــر للدولة على الدوام احتياجاتها المالية بأدنى كلفةٍ ممكنة. حتى أن بعضهم قال لجانب الجمعية إن الازدواج الضريبي لن يمرّ، فإذا به قد مرَّ بمعدّل 7% ، ويرشح الآن أن الطبقة السياسية سترفعه أيضاً الى 10% في مشروع موازنة العام 2019.

طبعاً، بقيت كل الوعود مع الأسف وعوداً. وكأنَّ وعد الحرّ في بلدنا ليس ديناً على صاحبه!.. لن تقبل المصارف أن تُفرَض عليها أية التزامات إضافية وهي تؤمّن للدولة سنوياً أكثر من ثلثي إيراداتها من خلال الضرائب والازدواج الضريبي ومستوى الفوائد المدينة الذي لا يعكس كامل مخاطر البلد. فقد باتت المصارف بكل بساطة وبكل صراحة غير قادرة على مدّ الدولة بالمزيد!.. وكل إلزام لها بما يتخطّى ذلك سيدفع إلى تخفيض درجة تقويم لبنان وقطاعه المالي. عندئذٍ، نكون قد وقعنا في المحظور بسبب السياسات العامة بدل أن تساعد هذه السياسات على نمو الاقتصاد وازدياد إيرادات الخزينة بطريقة صحية!.. هل يدرك أهلُ السياسة أن كل بلدان العالم تمتنع عن إرهاق كاهل الاقتصاد بالضرائب في حالة انعدام النمو أو ضعفه؟! وأنه قد تترتّب على مثل هذه المنحى انعكاسات مؤذية ليس على المصارف فحسب إنما أيضاً على مالية الدولة وعلى الاستقرار المالي والاجتماعي للبلاد!...

فبدلاً من تحميل الاقتصاد والمصارف أعباء إضافية لا قدرة لها على تحمّلها، يجدر بالقيِّمين على القرار السياسي في البلد أن يبذلوا جهداً من جانبهم لتقليص عجز الموازنة كما تعهّدوا به في مؤتمر "سيدر" وأن يجهدوا كذلك في وقف الهدر المستشري ولو تدريجياً والبالغ سنوياً حدود الأربعة مليارات دولار. إن تخفيض كلفة الهدر والفساد في مدى السنوات الأربع المقبلة بمعدَّل مليار دولار سنوياً يوفـّـر للخزينة الموارد الإضافية التي تحتاجها.

وللعلم، ثمّة مصارف أجنبية عديدة تحوم حول كبار المودعين في البلد كالغربان لإقناعهم بتحويل أموالهم إلى الخارج تفادياً لظلم الدولة اللبنانية. وإذا تعقّل أهل القرار السياسي لدينا بوقف الهجمة على أموال الناس، فمن الطبيعي أن يسارع عندها مصرفيّونا الى التواصل مع أصحاب الرساميل الذين فضَّلوا إخراج أموالهم - والتي فاق حجمها في السنتين الماضيتين عدّة مليارات من الدولارات - كي يعيدوها إلى لبنان تدعيماً لميزان المدفوعات وتالياً للاستقرار النقدي والاجتماعي.

فليس في الأفق من بدائل مقبولة لاجتذاب الرساميل مجدداً كي نضع حدّاً لنزيف ميزان المدفوعات الخارجية. حتى اللجوء إلى تخفيض العملة لا يشكِّل حلاًّ. ومثال تركيا دامغ جداً على هذا الصعيد إذ أدّى ، من جهة ، إلى ارتفاع كبير في مديونية الشركات والأفراد ، ومن جهة ثانية ، إلى تسارع هروب الرساميل بدل اجتذابها. ولتركيا، بخلاف لبنان، اقتصاد منتج للسلع والخدمات القابلة للتصدير وعجز في ميزان مدفوعاتها الجارية أدنى بكثير من عجز لبنان. كما أن تركيا ، لوقف نزيف العملات الصعبة، رفعت مستوى الفوائد على سنداتها السيادية الى ما يفوق 19% ، وهو رقم يتخطّى بكثير معدّلات الفوائد لدينا!

مَن ينادي بتدفيع المصارف ثمن سوء إدارة البلد على مدى سنوات يغرّد خارج السرب، بل إنه لا يعرف كيف تعمل المؤسّسات وربما لم يسبق له أن أدار مؤسّسة أو أسّس شركةً. إن استسهال الاقتطاع من الاقتصاد ، ولاسيّما الإقتصاد الذي يعاني من الركود، يشكِّل سياسةً قصيرة النظر وعديمة الجدوى كمَن يملأ الماء في سلّةٍ مثقوبة بل وفي بئرٍ قعره "مقدوح". فالحلّ يكمن في معالجة قعر البئر، وليس في استجرار مزيد من الماء إليه. الحلّ يكمن في تقليص عجز الموازنة من خلال تضييق رقعة الهدر وتخفيض كلفة الفساد. والحال أن ثمّة مفارقة مستهجنة تشوب المشهدية اللبنانية السائدة راهناً، وهي أن القطاع المصرفي، الذي هو أحد أهم ركيزتَيْ الإستقرار والتنمية في لبنان، يبدو واقعاً بين مطرقة العقوبات الخارجية وسندان الفساد الداخلي؟!