خدمات الجمعية ومنشوراتها

تشرين الثاني 2018

المدفوعات الخارجية: ضرورة التحوط والمعالجة

مؤخّراً، أصدرت إدارة الإحصاء المركزي مشكورةً تقديرات الحسابات القومية لعام 2017. ويتبيَّن من مراجعتها أن ثمّة ثلاثة مجاميع تستأهل التسجيل. أولاً ضعف النمو الاقتصادي حيث بلغ معدّله 0,6% (أقل من واحد بالمئة) مقابل 1,6% للعام السابق 2016. ما يجعل الناتج المحلي الإجمالي عند مستوى 53,4 مليار دولار أميركي بالأسعار الجارية مقابل 51 ملياراً للعام الذي سبق. وضعف النمو في لبنان ليس جديداً كما تظهره المنشورة المشار إليها، إذ بلغ معدّل النمو السنوي المتوسط لفترة السنوات السبع 2011 حتى 2017 فقط 1,5%. حقيقة ثانية تثبتها إدارة الإحصاء المركزي، وهي إن الدخل القومي الإجمالي (GNI) يعادل في العام 2017 الناتج المحلي الإجمالي.

بكلام آخر، إن حركة المداخيل المرسلة إلينا من الشركات اللبنانية العاملة في الخارج صافية من دخل الشركات الأجنبية العاملة في لبنان والمحوّلة إلى الخارج لا يضيف شيئاً إلى الناتج المحلي الإجمالي. في المقابل وبالعكس، فإن تحويلات اللبنانيّين العاملين في الخارج صافيةً من تحويلات العاملين الأجانب في لبنان إلى بلدانهم تترك لنا فائضاً تقدره مديرية الإحصاء المركزي بقيمة 1,2 مليار دولار لعام 2017 مقابل 2,45 ملياراً في العام 2016. فيصبح الدخل القومي الإجمالي المتاح (GNDI) للاستهلاك والادخار 54,6 مليار دولار.

وتجدر الملاحظة أن تراجع تحويلات العاملين اللبنانيّين في الخارج يشكِّل الحقيقة الثالثة التي تكشف عنها إدارة الإحصاء المركزي. ويعني هذا الواقع على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي أن منحى استبدال العمالة اللبنانية المؤهَّلة بعمالة أجنبية غير مؤهَّلة وبأعداد متزايدة يمكن أن يكون قد وصل إلى حدوده القصوى؛ إذ يستحيل أن يستمرّ لبنان بهكذا معادلة لأن الوضع السكاني عندنا قد دخل، من جهةٍ أولى، في مرحلة التوازن الديمغرافي ما يعني أن معدّل الولادات يكاد لا يغطّي معدّل الوفيات. وينتج عن ذلك، من جهةٍ ثانية، أن القدرة على " تصدير" العمالة اللبنانية مقابل التحويلات المالية إلى البلد تتقلّص عاماً بعد عامٍ وربما وصلت بدورها إلى حدودها القصوى. يضاف إلى ذلك أن الأوضاع السياسية القائمة وتباطؤ النمو وحجم الهدر والفساد يجعل المقيمين في لبنان ييأسون من إمكانية الإصلاح والتغيير، فكيف لا ييأس غيرُ المقيمين.

ويرتبط بالحقائق الثلاث التي رصدتها مديرية الإحصاء المركزي أن موازين مدفوعات لبنان الجارية والمالية ستزداد تدهوراً في السنوات المقبلة مع انعكاسات مؤلمة على الاقتصاد والاجتماع. وتشير معظم التقارير الدولية التي صدرت حديثاً والتي سنتوقف عند بعضها إلى حراجة هذا الواقع لدينا. وبدل أن تنصبّ جهود مَن هم ممسِكون بقرار الدولة وسلطتها على التصحيح والإصلاح، نجدهم يهدرون الوقت والإمكانات في صراعاتٍ عقيمة تُبقيها العصبيّة الطائفية خارج أية رقابة فعلية أو أية محاسبة سياسية.

ثانياً – التقارير الدولية ترصد بدورها مؤشّرات التدهور


بالإضافة إلى تسجيلها ضعف النمو الاقتصادي، تركّز التقارير الدولية المتعلّقة بلبنان - وهذا طبيعي - على تطور المؤشّرات المرتبطة خصوصاً بعلاقات لبنان الخارجية، السلعية والمالية والنقدية. وفي قلب هذه العلاقات الاقتصادية مع العالم يتمّ رصد ميزان المدفوعات الجارية كونه يشكِّل حصيلة علاقات أيّ بلد مع الاقتصاد العالمي. ذلك أن المحاسبات المالية بين الدول تأتي إما لتوظيف الأموال الناتجة عن فوائض الحساب الجاري في الأسواق المالية العالمية وإما لاستقطاب الأموال المطلوبة من هذه الأسواق لتغطية عجوزات الحساب الجاري. ورصيد هذه العملية هو ما يعرف بميزان مدفوعات البلد الإجمالي إيجاباً أم سلباً. وفي حالة لبنان الرصيد سلبي جداً!. وقد تخطّى للأشهر العشرة الأولى من العام الجاري (2018) ثلاثة مليارات دولار أميركي!

وبالعودة إلى موضوع الحساب الجاري، "وهو «أصل الحسابات الخارجية»، فإن التقارير الصادرة عن البنك الدولي ومصرف غولدمان ساكس ووكالة موديز توقفت كلّها عند العجز الخارجي. فقد وضعه البنك الدولي، نقلاً عن صندوق النقد، في حدود 12,4 مليار دولار، أي ما نسبته 23,4% من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر بـ 53,4 مليار دولار. وإذا أخذنا في الحسبان قيمة السهو والخطأ التي يدرجها صندوق النقد بمقدار 3,3 مليار دولار لعام 2017 على اعتبار أنها مداخيل دخلت إلى البلد دون توضيح طبيعتها، يصبح العجز الجاري 9 مليارات أو 16,7% من الناتج. وتبقى هذه النسبة مرتفعة جداً بكل المقاييس العالمية. ولنا عليها تحفّظ لعدم دقة المعطيات الإحصائية في لبنان. وكلّنا مطالَبون – المصارف ومصرف لبنان وإدارة الإحصاء المركزي – بجهدٍ أكبر وصولاً إلى إحصاءَات أكثر موثوقية بل وأكثر واقعيةً.

أما تقرير مصرف "غولدمان ساكس" في 3 كانون الأول 2018 تحت عنوان "إلى متى يستطيع لبنان تمويل عجوزاته" ؟ ويعني بالأخيرة العجزَيْن التوأمين عجز المالية العامة (الداخلي) والعجز (الخارجي) وكل منهما يغذّي الآخر، فيرى التقرير صعوبة كبيرة في قدرة لبنان في المستقبل على توفير التمويل، وبخاصة تمويل العجز الخارجي، من جهة، لضخامته إذ يتطلّب 3 إلى 4 مليارات دولار سنوياً لتغطيته، ومن جهة ثانية، لاستنزافه احتياطيّات لبنان من العملات الأجنبية. ويعزو التقرير هذه الصعوبة إلى استمرار وتيرة الانفاق، وتالياً عجز المالية العامة بنسبة 9 إلى 10% من الناتج بينما تسجّل في موازاة ذلك الودائع لدى القطاع المصرفي نمواً بحوالي 3%. ولن تكون هذه النسبة كافية في مدى السنوات المقبلة لتوفير الاحتياجات المالية للدولة اللبنانية، ناهيك عن تلبية احتياجات تمويل القطاع الخاص!.

أما تقرير "موديز" المنشور في 13 كانون الأول الجاري، فقد أبقى على تقييم مخاطر لبنان عند درجة B3 التي توازي – Bلدى ستاندرد إند بوروز وعدَّل النظرة المستقبلية من مستقرّة إلى سالبة (Negative ). وأعاد موديز ذلك إلى عدم الاتفاق على تشكيل حكومة.  ويعني غياب الحكومة عدم السير ببرنامج الإصلاحات التي تمَّ الالتزام بها في مؤتمر «سيدر» في باريس. وينتج عن هذا الوضع عدم حصول البلد على تمويل لمشروعات البنية التحتية التي تشكّل في وضعها الحالي عائقاً أمام الاستثمار الخاص، المقيم وغير المقيم. فيبقى النمو الاقتصادي على ضعفه وتباطؤه مع تفاقم كلفة المديونية العامة إزاء تصاعد المخاطر بما فيها الجيوسياسية. ويؤدّي كل ذلك حسب موديز إلى تقليص قدرة السلطة على ضبط توسّع الاختلال في عجز المالية والعجز الخارجي.

المعالجة ما زالت ممكنة بالرغم من الأوضاع المعقّدة القائمة والمخاطر المترتّبة على استمرار التدهور بوتيرة متسارعة، إذا غابت المعالجات أو فشلت.

ولمعالجة العجز الخارجي عنوان عريض يتمثّل أولاً وآخراً في تخفيض استهلاك السلع المستوردة، وخصوصاً من خلال ضبط وترشيد الاستيراد المتفلّت من أية ضوابط. وقد طُرحت مؤخراً ملفّات عدة تتعلّق على سبيل الذكر لا الحصر بالدواء والمحروقات والسيارات ومدخلات البناء (خشب وحديد وألومينيوم...). والوفر في استيراد كمياتها وفي الاقتصاد بأسعارها أمرٌ بمتناول السلطة إن حزَمت أمرها، ورهن تجاوب الناس متى عَلِم الجميع المخاطر المترتّبة على هذا الحجم الهائل من السلع المستوردة. فقد أعلمنا وزير الصحة مشكوراً بتوافر الـجينريك Generique لعددٍ كبير من الأدوية الأساسية. ثم أن حجم الأبنية والشقق، السكنية والتجارية، غير المؤجَّرة أو غير المباعة من المنطقي أن يُخفّض استيراد السلع المرتبطة بهذا النشاط. يبقى موضوع المحروقات مع فاتورة ناهزت 4112 مليون دولار سنوياً تتوزّع على الكهرباء والاستعمالات الأخرى، لاسيّما بنزين السيارات. ويُخشى أن يكون الحلّ بالتقنين في استهلاك كليهما!. والتضحية الموقّتة من الناس ستكون مقبولة بهدف الحفاظ على الاستقرار المالي لحين التوافق على حزمة من السياسات والتدابير يتحمّل كلفتها القادرون على ذلك. إن التلميح أو التهديد المبطّن أو الصريح بإلغاء هذه الديون أو بإجراءات غريبة عن ثقافة وتاريخ اللبنانيّين يُدخِل البلد في منحى انهيار غير معهود. فلا يستسهلنَّ أحدٌ الدخول إليه لأن الخروج منه ببساطة غير متوافر، وقد يقضي على مدّخرات وثروة اللبنانيّين لعقودٍ عديدة قادمة.

إن تثبيت سعر صرف الليرة على مدى عقدين ونيّف أعطى اللبنانيّين قوة شرائية لعملتهم الوطنية جعلت ممكناً الاستيراد بأحجام غير مبرَّرة اقتصادياً أو اجتماعياً. فإذا أردنا الإبقاء على الاستقرار النقدي، بات ضرورياً بل ملحّاً تخفيض فاتورة الاستيراد!. قبل الحرب اللبنانية في مطلع سبعينيّات القرن الماضي، كنا نغطّي ما بين 50% إلى 70% من الاستيراد بالتصدير! وبتنا اليوم نغطّي فقط 14,5%. المعالجة النقدية بالفوائد والهندسات لاستجلاب العملة الصعبة لم تعد كافية. والمطلوب تصحيح في الاقتصاد الحقيقي، أي في ما ننتج وفي ما نستهلك كبلد. فعسى أن ـتجرؤ الحكومة العتيدة على اعتماد سياسات وإجراءات تتناسب مع مخاطر الواقع الذي وصلنا إليه!...