خدمات الجمعية ومنشوراتها

تموز - آب 2017

في متانة النقد الوطني وسلامة القطاع المصرفي

يخالُ لمن يسمع ويقرأ في الآونة الأخيرة بعض الخبراء وبعض وسائل الإعلام أن البلد على شفير الهاوية نقداً ومصارفَ وخزينةً عامةً. وطبعاً الرأي العام لن يؤخَذ بهذه المقولات. فلدى اللبنانيّين من الوعي والتجارب ما يُحصِّنهم ضد هكذا مقاربات ممعنة في التشاؤم ومُحجبة رغم ثقافتها وسعة اطّلاعها عن قراءة موضوعية للأرقام والمعطيات والتطورات. ونقرأ في لعبة الأرقام على سبيل المثال لا الحصر أن احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية والذهب يسجّل عجزاً يفوق المليار دولار أميركي في مقابل ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. ويُغفِل هذا الإحتساب محفظة مصرف لبنان من اليوروبوندز المصدرة من الدولة اللبنانية في الأسواق العالمية. ففي حال احتساب هذه المحفظة، يتحوَّل العجز المشار إليه إلى فائض يراوح بين 5 و 6 مليارات دولار. وللتذكير أيضاً، فإن مصرف لبنان بصفته مصرف الدولة سدَّد عنها التزامات بالعملة الأجنبية قاربت مع نهاية حزيران 2017 مبلغاً قدره 10 مليارات دولار. إن أخذ هذه المعطيات في الحسبان يجعل مطلوبات مصرف لبنان وموجوداته بالعملات الأجنبية تتوازن، بدون احتساب قيمة الذهب أي 11,5 مليار دولار للفترة ذاتها. ويكمن منطق احتساب سندات اليوروبوندز اللبنانية في كون مصرف لبنان يلعب بالنسبة الى إصدارات الدولة اللبنانية في الأسواق العالمية دور صانع السوق Market Makers بحيث يتدخّل مشترياً هذه السندات حرصاً على عدم انهيار أسعارها. أما مبلغ العشر مليارات المسدَّدة لصالح الدولة وخاصةً كلفة المحروقات لكهرباء لبنان، فإنها ضرورية لتأمين الطاقة للاقتصاد وللبلد. وهي تتمّ طبعاً بقرار من الدولة. وبدل إلقاء الملامة على البنك المركزي لتدخّله منعاً لانهيار سندات الدولة ومنعاً لتعثر الإقتصاد وشؤون الناس، كان من الأفضل إلقاء الضوء على منظومة الهدر والفساد من أجل المصلحة العليا للبلد. وقد تشكّل عندها استعادة أموال الدولة وممتلكاتها المهدورة و/أو المنهوبة تضييقاً هاماً لعجوزاتها!

أولاً - المصارف والإقتصاد


تزعم بعض الأوراق "أن المصارف لم تعد تؤدّي دور الوسيط في النشاط الاقتصادي في لبنان علماً أن الوساطة المالية مع القطاع الخاص هي وظيفتها الرئيسية". ويستند الكاتب في مقولته هذه إلى أن حصة الإقراض للإقتصاد من إجمالي موجودات المصارف هي فقط 25% بينما توظف المصارف ما يقرب من 60% لدى القطاع العام، بما هو مصرف لبنان والخزينة اللبنانية. وتستدعي هذه القراءة الضيّقة لتوظيفات المصارف ثلاث ملاحظات أساسية : أولها وأهمها أن التسليف المصرفي للإقتصاد يُقاس، حسب صندوق النقد الدولي، نسبةً إلى حجم الإقتصاد وليس إلى حجم ميزانيات المصارف. وتتعدّى هذه النسبة في لبنان 110% (!)، وهي تنسجم مع النسب القائمة في معظم مناطق ودول العالم. وتظهر الجداول التي ينشرها البنك الدولي عن العام 2016 أن متوسط هذه النسبة للعالم العربي هو 58,2%، وهو 46,3% لمنطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا التي ينتمي إليها لبنان. و49,1% لمنطقة أميركا اللاتينية والكريبي. وتصل نسبة الإقراض إلى الناتج في منطقة اليورو إلى 89% ولمجمل الإتحاد الأوروبي إلى 95,2% (منها فرنسا 97,6%). والملاحظة الثانية التي تستدعيها مقولة عدم كفاية الاقراض المصرفي للاقتصاد في لبنان هي أن قدرة قطاع المؤسّسات على الاقتراض قياساً برساميلها قاربت حدّ التشبّع. فالمطلوب في هذه الحالة على ضوء التركّز في التسليفات أن تتموّل المؤسّسات الكبيرة من خلال الإدراج في بورصة بيروت، أي من خلال زيادة الأسهم أو السندات. ويشكّل توجّه المؤسسات إلى الأسهم والسندات تنويعاً صحياً ومستحبّاً لمصادر التمويل. وتكون عندها الأسهم والسندات المطروحة لإكتتاب الجمهور المباشر أدنى كلفةً من الإقتراض المصرفي إذ تؤدّي الشركات لحاملي الأسهم عوائدَ متى حققت أرباحاً وتدفع لحاملي السندات مردوداً ثابتاً. والمطلوب من الإقتصاديّين والباحثين تشجيع تطوير الأسواق المالية في لبنان، فتنافس المصارف في تمويل الإقتصاد بدل توجيه الملامة دوماً إلى المصارف عندما تقوم بوظيفتها في التمويل.

وتتمثل الملاحظة الثالثة والأخيرة في مقولة عدم تأدية المصارف وظيفتها الرئيسية في الوساطة المالية بين العملاء الإقتصاديّين. وتكشف الحقيقة واقعاً مخالفاً تماماً لهذه المقولة، فالمصارف تستقطب بكفاءة المدّخرات والفوائض لدى بعض العملاء وتؤمّن إقراضها وبأفضل الشروط  للأسر والأفراد والمؤسّسات التي لديها حاجات تمويلية. ثم أن المصارف طوَّرت شبكة واسعة جداً من الفروع (1078 فرعاً في لبنان)، بمعدَّل فرع واحد لكل 4174 مواطناً وهو يماثل معدّلات دول منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية OECD دون أن نأخذ في الإعتبار العدد الكبير من الصرّافات الآلية (1800) المنتشرة على كل الأراضي اللبنانية، يضاف إليها نظام مدفوعات حديث جداً من بطاقات الائتمان والدفع بما يفوق حالياً 2,8 مليون بطاقة ومن التحويلات السهلة وغير المكلفة، ناهيك عن تواجد المصارف اللبنانية في الخارج الإقليمي والدولي (في 30 بلداً و82 مدينةً). وقد وفرَّت المصارف اللبنانية شبكة واسعة من علاقات المراسلة مع 183 مصرفاً حول العالم، ما يسمح للبنانيّين المقيمين والمغتربين في أقاصي الأرض بتحويل مدخراتهم إلى لبنان وبإجراء مدفوعاتهم المالية مع العالم. فليس صدفةً أن يقارب حالياً إجمالي موجودات القطاع المصرفي اللبناني (بما فيه المصارف التجارية ومصارف الأعمال) 220 مليار دولار بل وأن يقارب على أساس مجمّع بما فيه شبكة الخارج 254 مليار دولار، آخذين في الاعتبار حجم نشاط الخارج بما يناهز 34 مليار دولار. وهكذا تكون المصارف اللبنانية تلعب على أكمل وجه دور الوساطة المالية، وهي وظيفتها الأساسية. ويبقى أن هذا الدور لا بدَّ أن يرتكز كي يكون ناجحاً إلى عملة وطنية متينة وإلى سياسة نقدية ضامنة للإستقرار النقدي، وهذا ما سنتوقّف عنده في القسم الثاني من هذه المقالة.

ثانياً - المصارف والنقد والعلاقة مع البنك المركزي


النقد والمصارف توأمان لا ينفصلان. فقوة النقد من سلامة القطاع المصرفي. ومتانة المصارف في أساس إستقرار النقد. فالكتلة النقدية لم تعد تقتصر على النقد الورقي الذي بات يشكّل في الإقتصادات الحديثة نسبةً متدنية جداً من الكتلة النقدية بمفهوم الـ M3. والنقد المُصدَر من مصرف لبنان (4544/208050 مليار ل.ل.) يساوي 2,2% من إجمالي الكتلة النقدية كما في نهاية شهر تموز 2017!.. وما تبقّى أي 97,8% من الكتلة يتكوَّن من ودائع الناس لدى القطاع المصرفي. ما يعني أن أنظمة الدفع تديرها عملياً المصارف إلى جانب الموجب الملقى عليها بالحفاظ على مدّخرات الناس، وموجب تمويل الاقتصاد. ومصرف لبنان المركزي مسؤول قانوناً وعملياً عن سلامة القطاع المصرفي المؤتمن على مدّخرات الناس ومدفوعاتهم وتمويل أنشطة إقتصادهم. والسياسة النقدية التي ينتهجها مصرف لبنان يقرّرها المجلس المركزي وليس سعادة الحاكم وحدَه الذي يشاركه في عضوية المجلس نوابه الأربعة بالإضافة إلى المديرَيْن العامَيْن لوزارتَيْ المالية والإقتصاد. ويقرر المجلس المركزي كذلك وسائل تأمين الإستقرار النقدي والمصرفي، بما فيه سياسة معدّلات الفوائد والهندسات المالية ودعم الإقتصاد ودعم أية مصارف تحتاج الى دعم. ففي ذلك مصلحة عامة عليا للبلاد والعباد أساسها الإستقرار النقدي. والإستقرار النقدي الذي اعتاد عليه ويتمتّع به اللبنانيون لا يأتي من فراغ ولا يستمر على امتداد 25 عاماً بسحر ساحر، بل احتاج ويحتاج إلى سياسة نقدية منتظمة تكمن وسيلتها الأساسية في إدارة معدّلات الفوائد بعد أن قررت الدولة بكل مؤسساتها الدستورية (مجلس النواب، الحكومات) تثبيت أسعار صرف الليرة اللبنانية وأوكلت هذه المهمة إلى مصرف لبنان المركزي. ويُسأل البنك المركزي إذا اهتزَّ الاستقرار النقدي وليس العكس. ويصعب بل يستحيل على مصرف لبنان إنجاز هكذا مهمة – استقرار سعر الليرة وسلامة القطاع المصرفي وهما وجهان لعملة واحدة – دون بنية فوائد عالية حكماً. والعجب ليس في كونها عالية بل في كونها معتدلة، وهي ليست سخيةً في شيء وذلك لمجموعة من الأسباب نفصِّلها أدناه مدعَّمة بمعطيات موثوقة، إذ أن السؤال الأساسي للحكم على مستوى الفوائد يكمن في المقياس المعتمد لتوصيف معدّلات الفوائد بالمرتفعة أو المنخفضة أو المعتدلة.

تقتضينا الموضوعية تقييم مستوى الفوائد قياساً إلى مخاطر البلد. فالأسواق العالمية ما زالت تعتمد ما تنشره وكالات التقويم، ومنها موديز وستاندر إند بورز وفيتش ايبكا!.. ولتفادي الدخول في مقارنة منهجيات أنظمة تقييم كل منها، نعتمد للتبسيط مؤسسة Standard & Pours. ولكي نتجنّب أيضاً تعقيدات احتساب معدّلات الفوائد الدائنة والمدينة السائدة في عدد من الدول ذات درجة المخاطر المماثلة للبنان (أو الأفضل!) نعتمد المعدّلات التي ينشرها البنك الدولي لإستنادها على الأرجح إلى منهجية موحّدة. وطبعاً كلما ارتفعت درجة المخاطر ازدادت معدّلات وهوامش الفوائد في البلد المعني. ولتبيان هذا التدرج في ارتفاع الفوائد في سوق العملات الوطنية، نختار من جداول البنك الدولي عدداً من الدول بما فيها لبنان. أدرجناها من الأعلى تقويماً إلى الأسوأ، وقد أتت على الشكل التالي:

درجة المخاطر الفوائد المدينة الفوائد الدائنة هامش الفوائد
التشيلي A+ 5.6 3.82 1.78
ماليزيا A- 4.5 3.03 1.47
اندونيسيا BBB 11.9 7.17 4.73
روسيا BB+ 12.6 6.97 5.63
البرازيل BB 52.1 12.47 39.65 (أرقام غير طبيعية بسبب معدّلات التضخم)
تركيا BB - 14.61 -
الأردن BB- 8.1 3.03 4.8
الأرجنتين B 31.12 24.28 6.84
نيجيريا B 16.9 7.50 9.40
أرمينيا B 17.4 11.62 5.78
مصر B- 13.6 7.86 5.74
أوكرانيا B- 19.2 11.49 7.71
لبنان B- 8.4 5.93 2.47


وتظهر معطيات الجدول أعلاه أن مستويات الفوائد الدائنة والمدينة والهوامش في لبنان تتّسم باعتدال واضح مقارنةً مع الدول ذات تصنيف المخاطر المماثل. بل إن هوامش الفوائد في لبنان هي أدنى بكثير من تلك السائدة في دول تتمتّع بدرجة مخاطر أدنى (أي أفضل) من لبنان. ورُبَّ قائلٍ إن الفوارق في الفوائد والهوامش تعود إلى الفوارق في معدّلات التضخم بين لبنان والعديد من الدول المدرجة في الجدول. وهذا صحيح إذ أن معدّلات التضخم في لبنان بقيت مضبوطة ما يحفظ القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود وبالليرة اللبنانية. ويعود معظم الفضل في ضبط معدّلات التضخم – أدنى من 2% في متوسط السنوات الخمس الماضية – إلى السياسة النقدية التي اتّبعها البنك المركزي. فعلامَ كل هذا الضجيج؟!. قوة الليرة ضمانة لمستوى معيشة الناس وضمانة للحفاظ على مدخرات الطبقة الوسطى التي هي في طور إعادة التكوين بعدما أفقرتهم الحرب وهجّرتهم!

وتبيِّن بنية الفوائد في لبنان مقارنةً مع دول أخرى، من جهة أولى، أن توفير التمويل للإقتصاد من قبل المصارف بالليرة اللبنانية يتمّ بكلفة معتدلة ومقبولة (8,4%) قياساً إلى مخاطر البلد. وحصة التمويل بالليرة تقارب ثلث التمويل بينما يتّم التسليف للقطاع الخاص بالعملات الأجنبية وبكلفةٍ تقارب 7,25% كما في تموز 2017، أي بكلفة أدنى من الكلفة بالليرة!... وطبعاً ما كان تمويل الإقتصاد ممكناً بهذه الكلفة المقبولة في ظلّ مخاطر البلد لولا الاستقرار النقدي الذي يسمح للمصارف باجتذاب الودائع ولولا السياسة النقدية الملائمة لأوضاع البلد ومخاطره السيادية. ويتحمّل البنك المركزي جزءاً من كلفة تمويل البلد من خلال معدّلات الفوائد التي يدفعها على ودائع المصارف بالليرة لديه بمتوسط قدره 6,10%، أي أن المصارف تستخلص هامشاً في سوق الليرة قدره 54 نقطة أساس قبل أخذ كلفة الإستثمار في الإعتبار أو الربح!. ويدفع مصرف لبنان في المتوسط فائدة قدرها 4,19%على موجودات المصارف لديه بالعملات الأجنبية. وبالمقارنة مع كلفة الودائع البالغة 3,64%، فإن هامش المصارف مرةً أخرى هو 55 نقطة أساس ويتوجب مقارنة هذا المعدّل مع كلفة الإقتراض من الخارج بالعملات الأجنبية للدول ذات المخاطر المماثلة. فمصر على سبيل المثال، والتي تصنّف درجة مخاطرها B- ، أصدرت مؤخراً 3 مليارات دولار ، منها مليار لعشر سنوات بعائد قدره 6,65%! كما أطلق الأردن إصداراً بقيمة 500 مليون دولار بعائد قدره 5,8% علماً أن درجة مخاطره أفضل من لبنان (BB-). أما تركيا التي لديها تقويم أفضل من لبنان ومن الأردن ومن مصر، فقد أصدرت قرضاً بقيمة ملياري دولار لعشر سنواتٍ بعائدٍ قدره 6,15%. وللتذكير، فإن إجمالي دين لبنان بالعملات الأجنبية والبالغ 29,7 مليار دولار – حصة المصارف اللبنانية منه 55% ما يفوق 16 ملياراً – ينتج عائداً متوسطاً قدره 6,13%!.. كما ورد في النشرة الأخيرة لوزارة المالية الرقم 44 نهاية حزيران 2017. وهو أدنى مما تدفعه دولة كالمكسيك (6,85%) بدرجة تصنيف +BBB (!) أو البرازيل (9,88%) بدرجة تصنيف BB أو حتى الهند (6,49%) بدرجة تصنيف-BBB. ربما تكمن المشكلة في الهندسة المالية التي أجراها البنك المركزي في ظروف شديدة الحراجة والدقة، والتي يقتضي تناولها في ظروف إجرائها ليس إلاّ. ويتبيّن من المعطيات أعلاه أن هوامش المصارف مع مصرف لبنان متدنية جداً وبحدود 55 نقطة أساس. فأين هو السخاء! أما إقراض المصارف للدولة فنتوقف عنده في القسم الثالث والأخير أدناه.

ثالثاً – المصارف والدولة


ليس من خلاف على أن العجوزات السنوية المتمادية في مالية الدولة وما ينتج عنها من ارتفاع في المديونية العامة يشكلان معضلة وطنية حقيقية تنطوي بالنسبة الى البلد والمجتمع والمصارف، إذا استمرّت في التفاقم، على مخاطر تتهدّد مع الوقت الإستقرار المالي، بمعنى أن يصعب الإستمرار في تمويلها بشروط مقبولة. فقد تخطّى حجم الدين العام الإجمالي 76,4 مليار دولار أميركي، ما نسبته أكثر من 145% من الناتج المحلي الإجمالي كما في نهاية شهر حزيران 2017. وتتوزّع هذه المديونية العامة بنسبة 61,2% لليرة اللبنانية وبنسبة 38,8% للعملات الأجنبية والدولار بشكل رئيسي. وتحمل المصارف في ميزانياتها حصة من الدين العام تبلغ 47,5%، ويحمل مصرف لبنان 32,3% والمؤسّسات العامة (ضمان الودائع والضمان الاجتماعي) 7,7%. أما حصة القروض الثنائية والمتعددة الأطراف من الدول والمؤسسات الدولية فهي بحدود 3%. ما يعني أن ما يزيد عن 90% من الدين العام في لبنان توفره أطراف مؤسّساتية وعامة، وأن ما يقلّ عن 10% موجود في محافظ الأفراد والمؤسّسات الخاصة المقيم منها وغير المقيم. وهاتان السمتان لمديونية الدولة اللبنانية – أكثر من 90% لدى مؤسساتيّين وأكثر من 90% لدى المقيمين – يُكسبها صفة الثبات بعيداً عن  الطابع المتقلّب الذي تتّسم به المديونيات العامة للعديد من الدول الناشئة والنامية. وكما أوضحنا أعلاه في القسم الثاني من هذه الورقة، فإن المصارف تحمل كما في نهاية شهر تموز 2017 ديناً على الدولة قدره 34,6 مليار دولار يتوزّع تقريباً مناصفةً بين دين محرّر بالليرة ودين محرّر بالعملات الأجنبية.  ويُنتج عوائد للمصارف تبلغ في المتوسط 6,68%. وهو عائد معتدل بل متدنّ كما بيّنا أعلاه قياساً إلى المخاطر السيادية للبنان. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن الخزينة تملك في حساباتها لدى البنك المركزي ودائع بمقدار 23391 مليار ل.ل. كما في نهاية شهر حزيران 2017 تقابلها مدفوعات سدّدها مصرف لبنان عن الخزينة بالعملات الأجنبية قيمتها 14588 مليار ل.ل. للفترة ذاتها. ما يجعل للخزينة رصيداً دائناً لدى البتك المركزي بقيمة 8803 مليار ل.ل. ويشكّل هذا الرصيد، من جهة أولى، مساهمةً من وزارة المالية في كلفة الاستقرار النقدي، ومن جهة ثانية، إحتياطاً يخوّل الوزارة إذا تعذَّر حصولها في فترة زمنية معيّنة على التمويل بشروط مقبولة استعماله لحين تحسّن شروط الاقتراض. وهكذا تتحمّل أطراف المعادلة الثلاثة كلفة الإستقرار النقدي ولو بأعباء متفاوتة: المصارف في الدرجة الأولى من خلال بنية فوائد وهوامش متدنية قياساً إلى مخاطر البلد بعكس ما يذهب إليه البعض؛ والبنك المركزي في المقام الثاني من خلال أسعار الفوائد المدفوعة على إيداعات المصارف لديه، وذلك التزاماً بالمهمة المكلّف بها قانوناً لحماية الإستقرار النقدي. وأخيراً في المقام الثالث الخزينة من خلال كتلة ودائعها بالليرة لدى البنك المركزي. إنها ضرورات الإستقرار النقدي لا محظوراته، أيها السادة !... في الختام عودٌ على بدء. وفي البداية كان الإقتصاد بما هو انتاج واستهلاك. والبلد يستهلك فوق ما يسمح به إنتاجه أي مداخيله. بكلام آخر، الإدخار الوطني بما فيه كافة التحويلات والتدفقات المالية من الخارج لم يعد كافياً لموازنة الإنفاق الوطني. وتنعكس فجوة الإدخار – الإنفاق عجزاً منتظماً في موازين المدفوعات الجارية للبلد. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تستمرّ هذه الفجوة بما لا يقلّ عن 15% من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل ضمن المعطيات القائمة 7 إلى 8 مليارات دولار سنوياً. فكيف نموِّل هذه الفجوة في القادم من السنوات؟ ففي الغابر منها وفَّر النظام المصرفي المركزي والتجاري مقومات تجسير الفجوة، بالرغم من كل النقد القائم. ولكن يصعب الإستمرار في هذا المنحى إلاّ إذا عادت سلطة الدولة ومعها كل حقوقها بما فيه جباية الضرائب من كل المكلّفين ومن كل المناطق، وإلاّ إذا حدثت إصلاحات تبدو وعودها كثيرة وكبيرة مع العهد الجدديد إنما تبقى العبرة في التنفيذ. إلى حين ذلك، ليس المطلوب تهديم الهيكل على جميع اللبنانيّين المقيمين والمغتربين، بل المطلوب الإستمرار في حسن إدارة المخاطر وسط العواصف والمتغيّرات التي تُحيط بوطننا وشعبنا.